أجنحة
نجيب كعواشي.
المغرب
في طفولتي, كنت دائم النظر إلى السماء, والحلم بالسكن في قبابها, والتوحد مع ألوانها. كنت أراني نسرا يمخر عباب أعاليها, ويسود في ممالكها. وفي حصص الرسم المدرسية, لم يكن يستطيع أحد من زملائي منافسة ريشتي في ارتجال لوحات يكون موضوعها الطبيعة والسماء والطيور.. كنت مهووسا بهندسة تحليقاتها. دائما في الأعالي.. ولا ترضى بغير القمم مسكنا.
ظهر, آنذاك, على القناة اليتيمة والعديمة الألوان, إشهار لمشروب غازي مصنوع من التفاخ: طفل, في سننا, يشرب, بانتشاء, من القنينة, وكأنه يرضع من ثدي أمه الحنون. أتى على القنينة, ومد ذراعيه إلى الأمام, وباعد ما بين رجليه, وحاول أن يطير.. لحظات وحلق في الهواء.. كيف تمكن من التحليق؟ في الغد, طلبنا من آباءنا أن يشتروا لنا نفس المشروب. شربناه مقلدين طفل الإشهار.. فشلت المحاولة. كررناها عدة مرات, بدون نتيجة. انتظرنا الأيام التي تكون فيها الريح قوية, وخرجنا للضواحي, وتسلقنا المرتفعات, وقمنا بنفس حركات طفل الإشهار.. لم نتمكن من التحليق.. وبقيت أرجلنا لصيقة بالأرض. ضاع الحلم قبل أن يزهر ريشه وتكبر له أجنحة.
وكانت رؤوسنا قمامة لأكاذيب.. من قبيل حكاية الصرار والنملة.. كان خروجهما شتاءا كذبة أضخم من خرافة الأب نويل عشر مرات, ومن تحليق طفل الإشهار, عشرين مرة.. وأردت أن أصبح طيارا أشق السماء, وأقطف النجوم, لكن أمواج حلمي تحطمت على صخرة عيبي الخلقي: فحص طبي مبكر لعيني أظهر أنني مصاب بقصر النظر: لا يمكن أبدا أن أقود طائرة. تقصقصت أجنحتي, وضاع حلمي. تولدت عندي هواية تربية الطيور. ظلت الأعالي تسكنني. وعبر الطيور, أرتقي مدارجها, وأمخر عنان أعاليها, وأعوض بها عن أجنحتي التي بقيت حبيسة الأرض. ووفاءا مني للحلم القديم, سكنتني الهواية, وكادت تعصف بدراستي لكنني تداركت الأمور, قبل فوات الأوان. أصبحت الطيور خبزي اليومي. خبرت أسمائها وأصنافها ومواطنها الأصلية وطعامها ومواسم توالدها.. عج سطح بيتنا بالأقفاص المختلفة التصاميم والأحجام. واستطعت أن أصنع لي اسما بين مربي الطيور وتجارها. أغرقت الأسواق بأصناف نادرة, كنت وحدي أملك أسرار أصالتها ومصادر اقتناءها.
وبمرور الوقت, احتفظت بعدد قليل منها. أصبحت تزعج الجيران, وبها بدأ يضيق المكان. بعتها وربحت من ورائها ثروة صغيرة لكنني احتفظت بقفص واحد, وطائر وحيد.. حرمته من رفيقته.. حتى لا يتوالدا.