منتديات سرتا الأدبية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات سرتا الأدبية

اقرأ ففي البدء كانت الكلمة..و في النهاية تبقى الكلمة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خطوات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نجيب كعواشي




ذكر عدد الرسائل : 3
تاريخ التسجيل : 04/09/2007

خطوات Empty
مُساهمةموضوع: خطوات   خطوات Emptyالثلاثاء سبتمبر 18, 2007 6:14 pm

خطوات


كانت رغبته شديدة للسير في طرقات المدينة. ترك لخطواته حرية قيادته إلى حيث ترتضي. لم يناقش اتجاهاتها. ولم يكن يهمه أين ستنتهي. الطقس البارد يحثه على السير, ويستفزه للبحث عن مواطن الدفيء والحرارة, وسط جيوب هذا الرداء البارد الذي كسا الدنيا, وصبغ وجوه الناس بالاصفرار, ونحت فيها الشحوب.
أقسم المطر ألا يصب, وساد الجفاف والبرد. قالت التوقعات الجوية إن موجة البرد ستتواصل لأيام أخرى. وستنخفض الحرارة أكثر.. دخل مقهى اختارتها قدماه لما كلتا من التجوال, وقسا عليهما صقيع الطرقات. لا إسم لها ولا لوحة إشهارية. طلائع الظلام تقاوم أضواءها الداخلية. بهوها غارق في الضباب. بدا له روادها كأنهم في أنفاق تحت الأرض, وهاربون من قصف يلعلع فوق مدينتهم. يلعبون ويصخبون ويعربدون ويتفرجون على التلفزيون ويتلاسنون كحمقى في ملاجئ الجنون.
في ظروف أخرى, سيكون مجيئه هنا عبثا وجنونا. جلس بعيدا عن الجموع التي غرزت سهام نظراتها في التلفزة, وراحت تشتغل أيديهم بإشعال السجائر, وأفواههم بنفث أو ابتلاع أدخنتها, واحتساء المشروبات والثرثرة.. لم يكن التلفزيون في خط نظره. سيتعب ظهره وعينيه لو أراد أن يشاهده. لم يهتم لما كان يعرض. غطت القهقهات على صوت التلفزة. يستأنسون فقط بالصور, ويستلقون على قفاهم من الضحك, ويخبطون بأيديهم بين الحين والآخر على الطاولة (بعض الكؤوس سقطت على الأرض وانكسرت) استجابة للكوميديا. كيف يسمعون وسط الهرج والضجيج؟
النادل نشيط كنحلة. لو رأيته خارج المقهى لظننته متشردا أو لصا أو متسولا. لا سكن قار له سوى المحطات الطرقية أو الحدائق المهجورة. شكله وهندامه يتماشيان مع ديكور هذه المقهى المنتمية للهامش. نادى عليه أكثر من مرة لكنه انشغل بإلقاء النكت, وتسلية الزبائن, وإحضار طلباتهم, وترصد الهاربين من أداء الحساب. كان النادل على بعد خمس أو ست طاولات. قام إليه وطلب براد شاي منعنعا كبيرا يصبه في عروقه التي عشش فيها البرد. بعد قليل جاء النادل, ونظف الطاولة بخرقة مبللة, ووضع البراد. وقبل أن يشكره, طار من أمامه, واستمر يلقي نكته. شيعه بنظراته التي انتهى تحليقها الدائري عند كأسه.
صب الشاي في الكأس, وطوقها براحتيه. ولم تكد شفتاه تلامسان الكأس حتى انبثق من العدم ظل لم يعرف كيف وصل إليه. حجب عنه الرؤية والأضواء. ظل بلا سن أو ملامح. ترك الأضواء خلفه. أخرجه الجوع والبرد من العدم إلى الشوارع الباردة كما يخرج الجوع ذئبا من وكره لإسكات غريزة الافتراس. دهور من البؤس والبرد والجوع تجثم عليه. في عينيه كل ضياع العالم. غير الرجل وقفته فظهر وجه أكلته لحية خطها الشيب, وخدان محفوران, وعينان غائرتان.. سأل النادل إن كانوا يحضرون أكلا فأجابه:
- الحريرة والبيض المسلوق.
وأردف:
- الحريرة دواء البرد.
- قدحي حريرة وبيضا مسلوقا وخبزتين من فضلك.
لم يبح للنادل بأنه يشاطره الرأي حتى لا يرفع الكلفة بينهما. التهم الرجل الوجبة قبل أن تبرد. واضح أنه يحتاج إلى ما يدفئ صدره في هذا الصقيع. نزع معطفه الشتوي الثقيل, وأعطاه له, وبقي بكنزة صوفية يمكن أن توفر له بعض الدفء.. تذكر أن له عائلة لم يزرها منذ فترة. قرر أن يزورها في الغد. اليوم الثاني والأخير.. من عطلة نهاية الأسبوع.

نجيب كعواشي. المغرب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
خطوات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات سرتا الأدبية :: منتديات النثر :: منتدى القصة القصيرة-
انتقل الى: