الإسقاط الثقافي والعامل السياسي
د. تيسير الناشف
مما تشمله خلفية الإنسان الاجتماعية والنفسية أبعاد التاريخ والثقافة والاقتصاد. وتشمل هذه الخلفية أيضا القيم الروحية والدينية والثقافية والاجتماعية والمادية التي اكتسبها عن طريق التنشئة والتربية وعن طريق تجاربه الحياتية. وتتخلل هذه الأبعاد والقيم عناصر ذاتية وعناصر موضوعية. وفيما يلي عرض لأفكار تتعلق بالإسقاط الثقافي.
على الرغم من بعض الفائدة المستمدة من التحليل بوصفه وسيلة أو أداة من أدوات معرفة العلة والمعلول فإنه ناقص أو يعتوره عيب من الوجهين النظري والعملي. فالتحليل ناقص نظريا لأنه لا يمكن للمرء عن طريقه الإحاطة المعرفية المتاحة بالعلل والمعلولات. والتحليل ناقص عمليا لأن خلفية المحلل الاجتماعية النفسية تجعله انتقائيا، إلى حد ما، عند التحليل. وأحد العوامل المهمة التي تقرر مدى الاختلاف أو مدى المسافة بين تحليل المرء والتحويل (وسنتوقف عند هذه الظاهرة فيما يلي) الذي يوجده هو مدى قدرته على إيجاد مسافة بينه وبين ما يحلله، وعلى مدى قدرته على الفصل بين الموضوعي والذاتي. فكلما كانت المسافة أطول، بافتراض أنه أوجد تلك المسافة، كان تحويله أقرب إلى عملية التحليل. وفي الحقيقة أن الفصل بين الجانب الموضوعي والجانب الذاتي في النفس يكاد يكون مستحيلا أو هو بالغ الصعوبة. مدى التشابك بين العنصر الذاتي والعنصر الموضوعي ومسألة مدى إمكان أو استحالة الفصل بينهما من المواضيع التي شغلت المفكرين مدة قرون. ولا تزال هذه المسألة تشغل الفكر البشري.
وتقرر طبيعة الإنسان وخلفيته هذه سلوكه الفكري والعاطفي وأهدافه ونزعاته وميوله. وبعبارة أخرى، تفرز شخصيته.
في الإسقاط الثقافي تتحول عملية التحليل، بسبب الطبيعة البشرية وبسبب الخلفية الاجتماعية بالمعنى الأشمل، إلى عملية تحويل للشيء الذي كان القصد تحليله وتفسيره وإلى عملية إنتاج جديد له بدلا من إنجاز التحليل ابتغاء وصف ذلك الشيء واكتشافه ومعرفته. في ما يسمى بعملية التحليل يُسقِط "المحلل" نفسه، أي شخصيته بخلفيتها، على ما كان يقول إنه يحلله. في ما يسمى بعملية التحليل يفقد ما كان يقال إنه "موضوع التحليل" موضوعيته ويتحول إلى نتاج عن التفاعلات النشيطة لشخصية من يقوم ب"التحليل" وهو يتناول بطريقته الشيء الذي "يحلله".
و"المحلل" أو "الباحث" للشيء هو الذي يقرر بدايته. وهو الذي يرتئى هذه البداية. وهي توصف بأنها بداية بالنسبة إلى المحلل. وقد لا تستحق أن توصف بأنها بداية من منظور آخر غير منظور ذلك المحلل، من منظور السياق التاريخي، أو من منطلق إيجاد المنظور السليم أو من منظور شمول الرؤية. ووصف "المحلل" لتناوله بأنه بداية يستند إلى رؤيته. قراره الناجم عن شخصيته وخلفيته ارتأى أن تلك النقطة هي البداية.
وهذه ليست "البداية" الوحيدة بالنسبة إلى هذا "المحلل". فخلال عملية هذا التناول كل قرار يقرره ذلك الذي يقوم بالتناول يكون بداية أيضا. تحدث هذه البدايات حينما يصدر ذلك المتناول حكمه الفاصل على نحو يجعل فهم الجوانب المتعلقة بالشيء المتناوَل متفقا مع شخصية المتناوِل.
وبهذه العملية تبتلع شخصية المتناوِل، من منظوره، الشيءَ الذي يجري تناوله، ولا يرى المتناوِل الشيء المتناوَل بعيدا عنه أو موضوعا أو أنه توجد مسافة بينه وبين الشيء المتناوَل. بالنسبة إلى الشخص الذي يقوم بالتناول يكون الشيء الذي يجري تناوله وظيفيا، يؤدي وظيفة تحقيق توقعات الشخص المتناوَل وتصديق تصوراته المتحيزة وتبرير الموقف المتخذ من الشيء المتناوَل، وبذلك قد يصبح الشخص المتناوِل راضيا ومسرورا.
وبهذه العملية أيضا يصبح الشيء المتناوَل نسبيا إلى الشخص الذي يقوم بالتناول. يحكم على تاريخ الشيء المتناوَل وعلى ثقافته وحضارته ومعتقداته وحياته وتمنياته من منظور الشخص الذي يقوم بالتناول. وذلك المنظور توجده شخصية المتناوِل وخلفيته. ويمكن أن يكون الشيء المتناوَل شخصا أو شعبا أو أمة أو قارة، كما أنه يمكن أن تكون الجهة التي تقوم بالتناول شخصا أو جماعة أو حكومة.
والإسقاط الثقافي أو الأيديولوجي مظهر من مظاهر عملية التحويل لما كان يقصد أن يكون تحليلا وتفسيرا. وقسم كبير من الكتابات الاستشراقية مثال ساطع على عملية التحويل هذه. فهذه الكتابات عن الظواهر السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية خلال التاريخ العربي- الإسلامي كانت في الحقيقة إسقاطا ثقافيا لعقيدة سياسية على الشرق. رأى إدوارد سعيد في الصفحة الثالثة من كتابه الاستشراق ما معناه أن الاستشراق إسقاط ثقافي لعقيدة سياسية على الشرق والأسلوب الغربي للسيطرة على الشرق وإعادة بنائه وامتلاك السيطرة عليه.
والإنسان مخلوق سياسي. السياسة متأصلة في طبيعة الإنسان وحياته. وللسياسة تعاريف. وأحد هذه التعاريف ذات الأهمية الكبيرة هو أن السياسة هي القدرة على ممارسة التأثير الذي يحقق هدفا من الأهداف. ويبدو لي أن هذا التعريف لم يول الاهتمام الذي يستحقه في الدراسات السياسية والاجتاعية والثقافية والنفسية والتاريخية العربية. والسياسة بهذا التعريف أكثر اتساعا من مفهوم السياسة بمعنى سوس الأمم والدول أو بمعنى مجال نشاط الحكومات. وكل نشاط مسكون بممارسة التأثير.
وتقوم علاقات بين البشر في شتى المجالات، وهي أيضا وفي نفس الوقت علاقات سياسية، بمعنى انها تنطوي على التأثير والتأثر. العلاقات الاقتصادية والثقافية علاقات في مجال الاقتصاد والثقافة وهي أيضا علاقات سياسية. والمؤسسات والكيانات والمنظمات الثقافية والتربوية والاقتصادية مؤسسات وكيانات ومنظمات في مجالات الثقافة والتربية والاقتصاد. وهي أيضا كيانات سياسية. والمجتمع البشري كله، سواء أكان مجتمعا صغيرا أم كبيرا، كيان أو مؤسسة سياسية. والنظام الدولي سياسي. وفي أية علاقة بين إنسان وإنسان آخر أو بين شعب وشعب آخر أو بين أصحاب ثقافة وأصحاب ثقافة أو ثقافات أخرى يوجد عامل التأثير، وبالتالي مسكون بالممارسة السياسية.
والحكم على المستوى القطري أو المحلي ينطوي على الممارسة السياسية. وعلى الرغم من أن الحكم إحدى صور الممارسة السياسية فإنه قد يكون أشد تلك الصور تجليا. ويعني ذلك كله أنه لا يمكن الفصل بين الحياة والنشاط الإنسانيين، من ناحية، والسياسة، من الناحية الأخرى، بمعنى ممارسة التأثير الواعية أو غير الواعية.
ويختلف قدر الصفة السياسية في علاقة من العلاقات تبعا لقوة أو ضعف تلك العلاقة وموقعها في الظروف والملابسات الاجتماعية والنفسية والتاريخية والطبيعية وتبعا لموضوع تلك العلاقة وتلك الظروف والملابسات.
وأيضا تختلف قوة البعد السياسي للإنسان ولنشاطه تبعا لاختلاف الظروف التي يعيشها الإنسان. ومن هذه الظروف التخصص المهني. كلما ازداد البشر تخصصا من الناحية المهنية قلت قوة البعد السياسي في أدائهم المهني. ولكن في الوقت نفسه يزداد ثقلهم السياسي بوصفهم جماعة تؤدي وظيفة في المجتمع. وظيفيتهم في المجتمع تؤمن ممارستهم للتأثير. وحجم هذا التأثير يتوقف على عوامل منها مدى الاحترام والاعتبار اللذين يوليهما أفراد المجتمع لمهنة من المهن. فالمهندس، على سبيل المثال، لا يزاول مهنته بوصفه حاكما أو مدعيا عاما أو شيخ قبيلة، ولكنه يزاولها بوصفه مهندسا. ولمزاولة مهن يوليها أفراد المجتمع اهتماما كبيرا من قبيل الطب والتعليم الجامعي وزن سياسي أكبر في المتوسط من مزاولة مهن يوليها أفراد المجتمع اعتبارا أقل من قبيل جمع القمامة او تلميع الأحذية أو الخياطة.
ويمكن تناول العامل السياسي لمزاولة المهن من منظور آخر. في هذه المزاولة يقل أو يزيد العامل السياسي تبعا لما إذا كان التخصص المهني في العلوم الطبيعية والرياضية – أي العلوم التي تدعى دقيقة – أو في العلوم الأقل دقة، من قبيل القانون والعلم السياسي وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد. من طبيعة العلوم الأقل دقة أنها أكثر طواعية للتأويل وأشد خضوعا للقراءات المختلفة. وبعكس ذلك العلوم الدقيقة التي تقل أو تنعدم فيها القراءات، وبالتالي أقل خضوعا للتفسيرات الذاتية. في الأداء المهني المعتمد على التخصص في العلوم الدقيقة يقل العامل السياسي لأنه ينعدم في هذا الأداء التفسير الشخصي الذاتي المغرض، وفي الأداء المهني المعتمد على التخصص في العلوم غير الدقيقة يقوى حضور العامل الشخصي الذاتي المغرض، مما يتيح للمتخصص حيزا أكبر لممارسة التأثير وبالتالي يكون من الأسهل تحقيق الممارسة السياسية في هذه الحالة.
يبين ذلك أن البعد السياسي والبعد التخصصي المهني يتعايشان في الإنسان والعلاقات بينهما علاقات جدلية. في الأداء التخصصي المهني إذا قوي بعد واحد كانت هذه القوة عاملا في إضعاف الآخر. ومما له صلة بالموضوع القول إن معرفة هذه الحقيقة تساعد في إدراك أصول المعرفة البشرية. فلتحقيق إدراك هذه المعرفة يجب التمييز، على الأقل نظريا إن لم يكن من الممكن عمليا، بين الأداء المهني التخصصي والأداء غير التخصصي.
وممارسة التأثير الواعية يقصد بها تحقيق أغراض معينة. إذ ينبغي أن تكون الممارسة السياسية واعية حتى تكون ذات قصد أو غرض. ويستعمل الشخص السياسي وسائل لتحقيق التأثير لغرض تحقيق غرض أو أغراض معينة. وحتى إذا لم يعترف شخص أو جماعة عن قصد أو عمد بأن السياسة متأصلة في حياة الإنسان وكياناته، وهي تدري بان للسياسة صفة التأصل هذه، فإن عدم الاعتراف هذا نشاط سياسي أيضا. على سبيل المثال، المساعدة التي تقدمها الحكومة للناس في حالة مجاعتهم هي أشد تأثيرا من المساعدة التي تقدمها للناس وهم ليسوا في حالة المجاعة. وأيضا، تدريب الحكومة للناس على الدفاع عن النفس في حالة الحرب أشد أهمية وتأثيرا من ذلك التدريب في حالة السلام أو في حالة التوتر التي لم تبلغ حالة الحرب.
ويمكن للمرء أن تكون له نشاطات كثيرة في مجالات كثيرة. وتتوقف كثرة هذه النشاطات على عوامل، منها مدى الاهتمام لدى المرء. وثمة طرق فعالة لإيجاد أو إثارة هذا الاهتمام، وإحدى هذه الطرق هي إتاحة الحس النقدي. وهذه الإتاحة يمكن أن تحقق بوسائل منها التنشئة والتعليم على ممارسة الفكر النقدي.
وللظروف والملابسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أثر مقيِّد للبحث في مجالات المعرفة وفي مجالات الفنون. فهي تجعل من المستحيل أو من بالغ الصعوبة الكتابات الحرة. وتختلف هذه الظروف والملابسات بعضها عن بعض في مدى التأثير الذي تمارسه. وهذه الظروف والملابسات تقيد أيضا كل ما يقوم به الإنسان. وجسد الإنسان حاضر دائما، ولحضور الجسد تقييد لانسياب الفكر. البشر يتأثرون بحضورهم المادي. والوجود في المحيط الاجتماعي، على الرغم من الفوائد التي تجنى، مقيد للفكر وللحرية.
وتؤدي الايديولوجية وظائف، منها ادامة النظام الاجتماعي السياسي القائم، وهو نظام قائم على التفاوت في توزيع الفوائد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ومحاولة التقليل من اثر المكون الايديولوجي – ولا يحاول التخلص التام من اثره سوى الذين لعلهم يتوهمون بامكانية ذلك – تؤدي الى استعداء كثير من الناس. فهؤلاء، لانهم ايديولوجيون بمعرفة او بدون معرفة، لا يريدون معاداة الايديولوجية التي يستفيدون من وجودها. وبالتالي يقل اثر الموضوعية والتحليل في سياقات تشكل الايديولوجية عاملا مهما فيها. وكل سياق اجتماعي يتضمن عنصرا ايديولوجيا. وبالتالي فان القول باتباع الموضوعية في سياق اجتماعي قول ايديولوجي. ومن شأن هذا القول ان يحمل معنى محاولة التأثير في ايديولوجية من يوجه هذا القول اليهم. ولان من المستحيل التخلص من الايديولوجية في الحياة الاجتماعية فان من المستحيل في جو تسيطر عليه الايديولوجية التوصل الى الحقيقة.