الوعي الفكري وتحقيق التقدم
د. تيسير الناشف
تحقيق تنمية العرب الإجتماعية والثقافية والسياسية والإقتصادية وتقدمهم العلمي والتكنولوجي وإيجاد وتعزيز دورهم الحضاري الايجابي (وسيشار في هذا المقال الى هذا التحقيق والتقدم والإيجاد والتعزيز بعبارة "التغيير المنشود") من الأهداف التي يسعى إليها عرب أو يدعون ويتوقون اليها أو يكتفون بمجرد الحديث عنها. بيد أنهم لن يستطيعوا تحقيق هذا التغيير المنشود إلا باتخاذ وسائل ذات شأن من أهمها القيام بالنقد الفكري الرشيد أو العقلاني. عن طريق هذا النقد من المستطاع تحقيق الوعي الفكري. وعند استعمال كلمة "نقد" لا حاجة الى وصف هذه الكلمة بصفات مثل الصراحة والنزاهة وتوخي الحقيقة والجدية وما الى ذلك من النعوت، فكلمة "نقد" تتضمن متضمنات، في رأيي، هذه النعوت وغيرها. فلا نقد دون الصراحة والنزاهة وتوخي الحقيقة والجدية والصرامة في النقد.
ولا تمكن إتاحة الفرصة لممارسة النقد الفكري الرشيد دون توفر المحيط المؤاتي لممارسة ذلك النقد. وحتى يكون ذلك المحيط مؤاتيا لتلك الممارسة يجب أن يتسم بسمات منها الديمقراطية السياسية والإجتماعية والتحرر من الخوف السياسي والإقتصادي ومن البطش السياسي والعسكري، وتحقيق الحرية الفكرية. والمقصود بالحرية هنا حرية الحوار الفكري الهادف والمستنير وحرية التعبير عن الرأي كتابيا وشفويا في مختلف المجالات. ومن الجلي أن تحقيق هذه الحرية من شأنه ان يشكل جزءا هاما من التنشئة على الديمقراطية.
والوعي الفكري لا يقبل إلا ما يستسيغه أو يقبله الفكر، لأن الفكر صفة هذا الوعي. والوعي الفكري يعني الوعي النقدي لأن الوعي الفكري لا يقبل القيود الفكرية التي تتناقض مع طبيعة النهج النقدي الذي لا يقبل القيود الفكرية.
والوعي الفكري يتضمن الوعي الذاتي والوعي الموضوعي، بمعنى أن هذا الوعي يشمل الذات ويشمل الموضوع الذي تسلط عليه الطاقة الفكرية الناقدة.
وحتى يتحقق الوعي الفكري النقدي يجب أن ينبع من منابع أو مناهل فكرية مختلفة ومتعددة وغير محدودة بحدود اصطناعية ولا تحد إلا بنهاية الإنسياب أو الإنطلاق الفكري. المنابع الفكرية تنطوي على التيارات والاتجاهات والحركات والمذاهب والأبعاد والمناظير والمواقع والمواقف الفكرية. الوعي الفكري النقدي لا يتحقق اذا حددت او قيدت منابعه الفكرية. لا يتحقق الوعي الفكري النقدي بالارتكاز على منبع فكري واحد. في الإطار الفكري الأحادي المنبع لا يمكن أن يتحقق الوعي الفكري النقدي، وذلك لان الفرد المفكر في إطار منبع فكري واحد لا يمكن أن يكون واعيا لمنابع فكرية أخرى هو لا يدركها، ولا يمكن أن يكون في غياب إدراكه للمنابع الأخرى ناقدا لفكره.
حتى يتحقق الوعي الفكري النقدي يجب بالتالي أن يؤخذ بالديمقراطية الفكرية التي تجعل من الممكن نشوء وعدم قمع المنابع الفكرية المتعددة، وأن يؤخذ بالحرية السياسية والاجتماعية لأن قمع هذه الحرية مساس بإمكانية نشوء وتحقيق المنابع الفكرية. ومن الجلي أن الحرية تتنافى وتتناقض مع القمع والقهر، وأن الحرية تنطوي على المساواة في المواطنة والحقوق والواجبات بمقتضى القانون وفي ظل الديمقراطية، إذ بدون المساواة يستطيع من لديه قدر أكبر من المعطيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أن يسيطر أو يتغلب أو يدوس بالأقدام على من لديه قدر أقل من تلك المعطيات.
وحتى يقال إنه يؤخذ بتعددية المنابع الفكرية لا يكفي التصريح بأنه يؤخذ بهذه التعددية. الأخذ بهذه التعددية لا مفر من أن يتجلى في الممارسة الفعلية والعملية لنهج التعددية هذا بدون أن يتعرض الشخص الممارس للاعتداء والفتك والبطش من جانب حاملي أفكار أخرى لا يقرون بأفكار ذلك الشخص.
محك أو مقياس الأخذ بالتعددية الفكرية هو مدى إمكانية الممارسة لنهج التعددية بدون التعرض للاعتداء من جانب من لا يقرون بالفكر الآخر المختلف أو المعارض. إتاحة التعددية الفكرية - والتعددية تنطوي على امكانية الاختلاف والتناقض - شرط مسبق، إذن، لنشوء الوعي الفكري النقدي.