الفن للحياة
د. تيسير الناشف
الفن أداة للتعبير الإنساني: الشاعر والناثر والرسام والممثل والموسيقي وغيرهم معبرون كل بطريقته عن معان في المجال البشري الأوسع. أدوات التعبير هذه متعلقة بالحياة والوجود البشري والمعاني المعبر عنها معان متعلقة بالحياة. الفن وصف وتصوير للحياة. وهو يسعى إلى تحقيق الجمال في الحياة. ولأن الفن يحب الجمال فهو يبغض الأشياء البشعة من قبيل الفقر والظلم والاضطهاد والتشريد والعنصرية والتعالي البشري والاستبداد والطغيان. ويستلهم الفنُّ العقل والخيال البشريين. ويؤثر تأثيرا مقصودا أو غير مقصود في المجتمع والمؤسسات الاجتماعية. والفنانون العرب (والفنانات أيضا) مؤثرون في المجتمع ومؤثَّر فيهم في نفس الوقت، شأنهم في ذلك شأن أي شريحة من البشر. الفن يقع في صُلب الحياة.
ويختلف الفنانون العرب بعضهم عن بعض في مدى استجابتهم للحالة التي تعاني الأمة منها وفي مدى تفاعلهم مع تلك الحالة ومدى وعيهم بها وتناولها. في كل مجال من مجالات عمل البشر تختلف المجموعات البشرية بعضها عن بعض في مدى إقدامها وجرأتها على التصدي للظروف القائمة وفي مدى توانيها عن التصدي لتلك الظروف وركونها إلى الظروف القائمة.
وعند إصدار الحُكم على سلوك وموقف شريحة من الشرائح السكانية العربية وغيرها من الشرائح الأخرى تنبغي دوما مراعاة أثر نظام الحُكم السائد في سلوك وموقف تلك الشرائح. في النشاط الاجتماعي، الدور الأكبر يكون دوما لطبيعة نظام الحُكم: هل هو قوي أم ضعيف، معني أم غير معني بالسكان، يقوم أم لا يقوم على أسس ديمقراطية، يراعي أم يهمل حقوق البشر وحقوق الإنسان، مراعاته لمصالح السكان تفوق أم لا تفوق اهتمامه بمصالح الجهات الخارجية.
وكلما ازداد نظام الحُكم تدخلا في شؤون الشعب وازداد نأيه عن القضايا الشعبية وازداد الفقر والمرض والأمية انتشارا وشدة ازداد تهميش الفنانين. وفي ظل نظام الحكم الديمقراطي يكون الفنانون أكثر تحررا وتحقيقا لذواتهم وأشد تصويرا لنفوسهم واستجابة لتطلعات شعوبهم، وتكون نتاجات فنهم أكثر عكسا لميولهم وخيالهم والجوانب الموضوعية في حياتهم.
ويُطرح السؤال أحيانا كثيرة: هل ينبغي أن يكون الفن للفن أم أن يكون الفن مسخرا للحياة وللشعب؟ معنى الفن للفن معنى شامل. الفن نتاج بشري. والفن لا ينفصل عن الحياة والوجود، وهو يعبر دائما عن حياة البشر وكيانهم. إنه ذو صلة بالوجود البشري. إنه تجلّ وانعكاس للحياة ودعوة إليها. ونظرا إلى أن الفن لا ينفصل عن الوجود البشري فإنه لا بد من أن يعنى بشؤون الناس ووجودهم الثقافي والاجتماعي والنفسي. ولا يمكن لحياة الفنان إلا أن تكون جزءا من قضايا البشر. وللبشر حياتهم. وبالتالي لا مفر من أن يكون الفن للفن والحياة والبشر معا، ولا يمكن الفصل بين هذه الأبعاد الثلاثة.
الفن نابع من النفس البشرية، وهو انعكاس لها. ولا يمكن أن يكون الفن بعيدا عن حياة البشر ولا بد من أن يكون متصلا على نحو من الأنحاء بحياة المخلوقات البشرية ومن أن يكون عاكسا أو مصورا أو واصفا أو مبيِّنا لنظرة من النظرات أو فكرة من الأفكار. وهو بالتالي منتج متأثر بالتجربة الإنسانية. والفن هو كذلك مهما زُعِم بأن الفن مثالي أو مجرد. وحتى عبارة "الفنّ من أجل الفن" تنطوي على فكرة أن الفن للحياة والوجود البشري، إذ مَنْ يتلقى الفن ومن يخاطب الفنَّ ومن يخاطبه الفنُّ ومن يستهلك الفنّّ ومَْن الذي يستلهمه الفَنّ، وما هو العقل والنفس والجسم والريشة التي تنتج النتاج الفني؟ الإنسان هو مصدر الفنّ.
ولا أجافي الحقيقة إذا قلتُ إن الذين يقولون إن الفن للفن متأثرون في الحقيقة بالجو السياسي والثقافي والنفسي السائد على البشر. وجُملة "الفن للفن" ينبغي موضوعيا ألا يُفهم منها أن الفن ليس للحياة والإنسان والوجود البشري ما دام الإنسان هو مصدر الفن وما دامت الحياة مبعث الإبداع لدى الإنسان. إن جملة "الفنّ للفنّ" ينبغي ألا يُفهم منها أنه لا توجد علاقة عضوية لا انفصام لها بين الفن والإنسان والحياة والوجود البشري.
والفنّ ليس فقط للوجود البشري؛ إنه أيضا لما يجب أن يكون الوجود البشري عليه. وحينما يقال إنه لا يمكن الفصل بين الفن والحياة أو بين الفن والسياسة فلا يعني ذلك بالضرورة أن الفن يجب أن يسخر نفسه لخدمة السلطة الحكومية أو السلطة غير الحكومية أو أنه يجب تسخيره للاعتبارات الحكومية والحزبية والطائفية والفئوية الضيقة. فمفهوم السياسة بوصفها وسيلة لاكتساب القدرة على ممارسة التأثير لتحقيق هدف معين أو أهداف معينة يدخل في كل المجالات المُدركة للحياة. ومن الخطأ الجسيم اعتبار السياسة حُكما أو ممارسة للحُكم أو نظاما للحُكم. السياسة وسيلة لاكتساب القدرة على التأثير. والسياسة تتجلى في كل مجالات الكون البشري المُدرك. ويُمارَس هذا التأثير في مجال الحُكم والنقابات والتجارة والصناعة والإدارة وتطلعات البشر والكرامة والنزاع.
والفنّ، باستلهامه للعقل والخيال البشريين، وثيق الصلة بالحياة والإنسان، إذ هناك صلة بين العقل والخيال، من ناحية، والحياة والإنسان، من ناحية أخرى. والفن، باستعماله الأدوات البشرية من الشكل والتشكيل واللون والحركة والصور البشرية، مستمد من الإنسان والوجود الإنساني، وبالتالي لا بد من أن يكون الفنّ ذا صلة بالإنسان والوجود الإنساني. والسياسة عنصر متأصل في الوجود الاجتماعي البشري. والفن، بتأثيره المقصود أو غير المقصود، في الوجود الاجتماعي البشري، يدخل عالم السياسة ويؤدي دورا سياسيا. وما النقد والتحليل والوصف والدفاع عن البقاء والحفاظ عليه والتخليد وفضح الوصولية والتقييم والتشكيل، التي هي من مجالات اهتمام الفن، سوى أدوات سياسية. وما الكاتب والشاعر والعامل والأستاذ والممول وكاتبو النص من المسرحيات والقصص والممثلون والراقصون والمغنون سوى ممارسين للسياسة.
وقد يكون من الترف الفكري أن يُفهم من جملة "الفن للفن" أنها تعني أن "الفن ليس للحياة ولا للإنسان"، بينما تُسحَق الشعوب النامية وغير النامية، وتُداس حياتها وكرامتها بالأقدام وتقضي جوعا ومرضا، ولا يزال البعض يقولون إنه لا علاقة للفن بالوجود البشري وبحياة البشر وسياستهم ومجتمعهم ومصيرهم. وقد لا أجافي الحقيقة بالقول إنه لو سألنا الفن عما إذا كان موافقا على استعمال عبارة "الفن للفن" لاحمرَّ خداه خجلا من استعمال هذه الجملة.
ونظرا إلى أن فضاء الفنان واسع فهو – أي هذا الفضاء – موجود في حيز واسع: في أرجاء وزوايا النفس البشرية وفي الضمير والشارع والمقهى وغيرها.
ومهما كان الفنّ رفيعا وكان فضاء الفنان واسعا فإن الحياة والوجود أوسع فضاء وأكثر رفعة. هل يستطيع الفنان أن يصف وصفا دقيقا أو أن يجسد تجسيدا وافيا المعنى السامي جدا لولادة مرأة لطفل أو طفلة ولعملية ولادتها وساعة توقعها للوليد الجديد ولشعورها بعد الولادة. هل يستطيع الفن أن يصف وصفا دقيقا المعنى البالغ العمق لشعور الحب الغامر بين حبيبين؟! هل استطاع الفن أن يصف وصفا دقيقا وافيا معنى الشوق المستعر لدى أم إلى ابنها الذي طال غيابه عنها، ومعنى الشوق المستعر لديها وهي تفارق الحياة وتبتهل إلى الله أن يكون ابنها الغائب إلى جانبها في تلك اللحظة؟! ومعاني المسرح والشعر والنثر والموسيقى أضيق كثيرا، رغم عمقها، من فضاء الحياة والوجود الذي يستمد الفنان منه صوره وأشكاله ومعانيه وأحلامه وتصوراته.
ومن العوامل التي تزيد الفنان كمالا توفُّرُ جو الحرية وحرية الإعراب عن الرأي والتنشئة على الحرية واليمقراطية والشعور بالكرامة الإنسانية.